المدينة المشلولة التي "يخنقها" ما بعد أذان الإفطار
27/07/2014 - 5:38
* أكثر من 5 آلاف عائلة تزور شاطئ البحر كل ليلة
* من الزيارات العائلية و قعدات الشاي إلى السهرات الخارجية والإنترنت
تتميز ولاية بومرداس بنكهة خاصة تمزج بين نسمات البحر المتوسط وتنوع العادات والتقاليد في ولاية هي بوابة القبائل وبوابة العاصمة. ويأتي شهر رمضان ليزيد هذا الثراء ثراء، لكن هذا العام ليس كسابقيه بالنظر لعدة ظروف استثنائية منها تزامنه وفصل الصيف والتطور ألقى بظلاله، حيث إن العصرنة فرضت منطقها على السكان وخرجوا من قعدات الحوش وسهرات التاي بين الجيران إلى واجهة البحر وساحات العمومية حيث يجتمع أفراد العائلة حول شتى أنواع المثلجات والعصائر، فيما يفضل الشباب الإبحار في الإنترنت خصوصا مع دخول خدمة الجيل الثالث.
"البلاد" حاولت استطلاع أجواء هذه السهرات بولاية بومرداس التي أكد مدير السياحة بها، أن أكثر من 5 آلاف عائلة تتوجه إلى عاصمة الولاية كل ليلة.
بومرداس مدينة مشلولة تستيقظ مع المغرب:
يفاجئ كل من يزور بومرداس في نهارات رمضان الهدوء والسكون الذان يلفانها، فطرقاتها فارغة وحوانيتها مغلقة وإداراتها خاوية على عروشها إلا من الموظفين. تشهد شوارعها شللا شبه تام للحركة منذ ساعات الصباح الأولى، حيث لا يقصدها سوى الموظفين الذين يبدأون أعمالهم في حدود التاسعة طبعا لمن أراد لكون عدد كبير يفضلون النوم. أما بخصوص العاطلين عن العمل أو الطلبة وحتى العائلات وأصحاب المتاجر فلا يفتحون متاجرهم حتى الساعة 10 لتبدأ الحركة تدب شيئا فشيئا بعيد صلاة الظهر. وما يزيد من شلل المدينة موجة الحر الشديدة التي ضربت الجزائر هذه الأيام التي تجاوزت 30 درجة مئوية. وبما أن الشهر هو شهر صوم وتفاديا للوقوع في الشبهات يجد الأغلبية أنفسهم يعزفون عن الذهاب إلى البحر. لذا فإن أغلبية سكان بومرداس سواء في المدن أو القرى يفضلون النوم على الخروج إلى جو حارق، أما من استيقظ ولم يجد ما يشغل به وقته فالقلة يفضلون التوجه إلى المساجد لقراءة القرآن أو صلاة النوافل، فيما يتجه آخرون خصوصا الشباب إلى فضاءات الإنترنت حيث يتوفر على الأقل الجو البارد بفضل "المكيفات الهوائية"، خصوصا في ظل غياب حدائق عمومية أو أماكن للترفيه في بومرداس تحميهم من حر الشمس الحارقة.
وبمجرد حلول الفترة المسائية تكثر الحركة وتنشط التجارة ويكثر الرائحون والغادون ليتوقف كل شيء لربع ساعة للإفطار، بعدها تفتح صفحة جديدة من رواية بومرداس التي يكتبها رمضان 2014 عنوانها واجهة البحر و الساحات العمومية ومحلات المثلجات وأبطالها آلاف الأشخاص يزورون بومرداس كل ليلة من ليالي هذا الشهر الفضيل.
واجهة البحر محجوزة .. ومن دخل بومرداس فهو آمن
الساعة تشيرإلى حدود الحادية عشرة والربع ليلا، تتوقف أصوات تلاوة القرآن من صوامع بومرداس لتعلن عن نهاية صلاة التراويح، فيبدأ تدافع السيول البشرية إلى واجهة البحر التي اعتقدنا أن نجد فيها بعض العائلات في المقاهي وصالات الشاي وبعض الشباب على رمال البحر، لكن المفاجأة أنك لن تجد موطئ قدم، يمتلئ شاطئ البحر الرملي بالمئات من العائلات والشباب الذين يحتسون الشاي ويستمتعون بالسباحة التي حرموا منها نهارا أو استنشاق الهواء العليل الذي يهب على المكان.
وأكد من تحدثنا إليهم أن العدد يرتفع خلال أيام عطل نهاية الأسبوع وأيام الحر حيث يفضل الجميع الهروب من صخب المدينة إلى هدوء البحر ونسماته العليلة. فيما أكد آخرون أن غالبية الموجودين قدموا من خارج مدينة بومرداس كبرج منايل، يسر، الثنية بني عمران، وحتى من القرى والمداشر البعيدة التي يبحث شبابها عن فضاء للترفيه والاستمتاع بالسهرات الرمضانية، بل هناك قادمون من الولايات المجاورة خصوصا الأخضرية بالبويرة وبعض بلديات الجهة الشرقية للعاصمة كالرويبة والرغاية وباب الزوار. لكن المشكل هو امتلاء مواقف السيارات عن آخرها بداية من الساحة والطريق المقابلين لدار الثقافة رشيد ميموني وتمتد السيارات مع الطريق المحاذي لمحلات واجهة البحر لغاية ساحة الملعب الأولمبي.
من ترى عيناه هذه المشاهد ببومرداس ينكر أنها تلك الولاية التي عانت من ويلات الإرهاب وعصف بها الزلزال، فعاصمتها اليوم تستقبل قرابة 5 آلاف عائلة يوميا عبر واجهة البحر وشواطئه، وكذا الحدائق العمومية على غرار حديقة النصر بحي 800 مسكن وغابة قورصو غير البعيدة. يأتي هذا في ظل تحسن الأوضاع الأمنية في الولاية ككل وبعاصمتها على وجه الخصوص، ليصبح الجميع ينادون "من دخل بومرداس فهو آمن" عكس السنوات السابقة التي كان ذكر اسم الولاية يثير الرعب.
الصناعات التقليدية عامل جذب جديد
في غابة قورصو والواجهة البحرية لمدينة بومرداس لاحظنا في جولتنا الليلية طاولات وخيما للصناعات التقليدية، وتتلخص عادات وتقاليد ولاية بومرداس والمناطق المجاورة لها في تحف فنية من الفخار أو الزجاج أو الفضة وحتى القماش. فعلى طول حوالي 30 مترا بواجهة البحر تجد نفسك وجها لوجه أمام عالم آخر تصنعه أنامل فنان أبدعت في رسم لوحة، في نحت حلي فضية، في نقش وتليين النحاس، وجمال تلخصه أيادي فتيات يتحفن الزائر بجبات قبائلية، أو تحف مطروزة وأوان فخارية وتذكارات مختلفة. وقد أبدى الذين التقيناهم إعجابهم بهذه المبادرة التي بدأت كتقليد قبل سنتين وفي كل مرة تتطور وتتنوع كتنوع ثراء بومرداس، مشيرين إلى أنهم يجدون في هذه الخيم كل ما يربطهم بالعادات والتقاليد التي يفوح منها عبق التاريخ.
الشباب بين سهرات " النت" والجيل الثالث
في وسط المدينة كانت المقاهي مملوءة عن آخرها، والحدائق العمومية تشهد إقبالا رغم قلتها وفضاءات الإنترنت مملوءة عن آخرها ... اقتربنا من بعض الشباب لنسألهم عن سهرات رمضان، فأكد الجميع أن قبلتهم الأولى هي الإنترنت. كما أشاروا إلى أن "الكونسكسيون" في الليل تكون خفيفة وغير مكلفة عكس النهار، وأنهم يقضون النهار نائمين والليل ساهرين مع الأنترنت. كما كشف آخرون أنهم يفضلون الإبحار من الهاتف أو اللوحات الإلكترونية عبر خدمات الجيل الثالث.
اتجهنا إلى بعض محلات النت فوجدناها مملوءة عن آخرها وبالكاد تجد مكانا. سألنا صاحب محل أنترنت عن الإقبال بمركز المدينة فقال إن غالبية الزبائن شباب، وأضاف "نحن لا نغلق حتى يرفع المؤذن أذان الفجر".
بومرداس تنادي .. تعالوا فهناك المزيد
حاولنا في رحلتنا هذه أن نحكي عن ليلة من ليالي بومرداس كأنها هربت من الزمن الجميل لكن بنكهة عصرية. روينا في هذه الأسطر القليلة ما رأته أعيننا وما لمسته أيدينا ...لكننا نقر بعجزنا عن نقل الصورة الحقيقية لأنه "ليس الخبر كالمعاينة" فالجو في بومرداس استثنائي لا تعبر عنه الحروف ولا تنقله الكلمات. لكن قبل أن نختم رحلتنا بهذه السطور أردنا نقل رسالة من مدينة الصخرة السوداء التي وإن كانت سعيدة باستقبال كل هؤلاء الناس، إلا أنها تتألم وتئن تحت صمت الإهمال والتهميش الذي طالها . فغير بعيد عن واجهة البحر تمددت صخرة سوداء كأنها عذراء تمد رجليها في البحر المتوسط وتشتكي له ممن نسوها أو تناسوها. بومرداس تلك العروس التي بدا جمالها وإن لم تتزين تحكي أنها احتضنت قبل خمسين عاما بالتمام والكمال الهيئة التنفيذية أو حكومة "روشي نوار" التي مهدت لاستقلال الجزائر وسيرت الفترة الانتقالية بقيادة عبد الرحمان فارس استعدادا لاستفتاء تقرير المصير الذي قال فيه الجزائريون إن الجزائر لهم. وبهذا تكون بومرداس هي الصفحة الأخيرة التي كتبت فيها فرنسا آخر أيامها في الجزائر، وهي تريد أن تصبح الولاية الأولى التي تهوي إليها أفئدة السياح وهذا ليس بالصعب، فقليل من المشاريع وكثير من الثقة بالنفس والاهتمام تطل العروس وتسحر الجميع بجمالها. تركنا بومرداس تلك الليلة وهي تنفض عنها غبارا علق بها منذ سنوات وهي تغني بملء فيها وتتقدم إلى الإمام: "لا الإرهاب يركعني، ولا التهميش يوقفني".